تابعنا

الجمعة، 6 نوفمبر 2015

التفسير المختصر - سورة العلق (96) السورة بكاملها

التفسير المختصر - سورة العلق (96) السورة بكاملها
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1998-07-19
بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
سورة العلق :
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول الله عز وجل في سورة العلق :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ  عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
[ سورة العلق الآيات : 1-5 ]
اقْرَأْ أول آية نزلت :
 أوَّل آية أُنْزِلَت في كتاب الله تعالى : اِقرأ ، فهذا الدِّين العَظيم دِينُ عِلْم ودينُ حقيقة ، ودين مَنْهج ودليل وتَعليم وعَقْل ، إلا أنَّ القِراءة مُطْلقة وواسِعَة جدًا ، ويجب أن تقرأ باسم ربِّك ، وما لم تَخْتَر مَوْضوعًا يَنْفَعُكَ في الدنيا والآخرة فهذه القِراءة لا تنْفَع ، وقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام ربَّهُ فقال :
(( اللهمّ إنِّي أعوذ بك مِن عِلْمٍ لا ينفَع ، ومِن قلبٍ لا يَخْشَع ، ومِن عَيْنٍ لا تَدْمَع ، ومِن أُذُنٍ لا تَسْمَع ))
 وليس كُلّ عِلْمٍ نافِع ، فَهُناك عِلمٌ نافِع وغير نافِع ، وليس كلّ عِلمٍ مُسْعِد ، والعِلم الدِّيني هو وحْدهُ المُسْعِد في الدنيا والآخرة ، فقوله تعالى :
﴿ اقْرَأْ ﴾
 فهِيَ قِراءة ليْسَت مُطلقَة ؛ بل قِراءَةً تنتهي بِها إلى ربِّك ، وتتعرَّفُ بها إلى ربِّك ، وتُعَظِّم فيها ربَّك ، وقِراءَةً هادِفَة .
 قال تعالى :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾
[ سورة العلق الآيات : 1-3 ]
الإكرام الإلهي :
 أكْرَمَك بِنِعْمة الوُجود ، وأكْرَمَك بِنِعْمة الإيجاد والإمْداد ، والهُدى والرَّشاد ، ثمَّ قال تعالى :
﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾
[ سورة العلق الآية : 4 ]
 قال تعالى :
﴿ الرَّحْمَنُ  عَلَّمَ الْقُرْآَنَ  خَلَقَ الْإِنْسَانَ  عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
[ سورة الرحمن الآيات : 1-4 ]
 فالبيان إحْدى نعَم الله الكُبرى على الإنسان ؛ بالنُّطْق والسَّماع تنتقل المعارِف بين المُتعاصِرين ، ولكن بالقلم والكتابة والقراءة تنتقل المعارف بين الأجْيال ، وبين الأُمَم ، فلولا نِعْمة القَلَم لما انْتَفَعتْ أُمَّة بِأُمَّة ، ولا جيلٌ مِن جيل ، والدليل نأخذ أحد العلماء ؛ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ، كان يَحْضُر درسه عدد كبير جدًا فلما انتهى التواصل الشَّفَهي ومات انتهى عِلْمُهُ ، أما حينما ألَّف كتاب عِلْم الأحياء فَعِلْمُهُ مُسْتَمِر إلى يوم القيامة ، فبِالكتابة تنتقل المعارف من جيلٍ إلى جِيلٍ ، ومِن أُمَّة إلى أخرى .
 أيها الإخوة ؛ قال تعالى :
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
[ سورة العلق الآيات : 6-7 ]
 فالإنسان في ساعة الافْتِقار يقول : يا ربّ ، فإذا أغْناهُ الله وأتَمَّ عليه نِعْمة الصِّحة والمال ينسى الله عز وجل ، فالإنسان المؤمن يشْكر الله وهو في الرَّخاء ، ولكنَّ الشارِد يَذْكره وهو في الافْتِقار والشدَّة ، لذا : يستغني ، يتجاوَزُ حُدوده ، ويتجاوَز في تَصَوُّراتِهِ ، وفي سُلوكِهِ ؛ متى ؟‍
﴿ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
 أنْ رأى نفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا عن الله ، لذلك إما أن ترى نَفْسَك مُفْتَقِرًا إلى الله ، وإما أن يُريكَ الله افْتقارَك إليه ، إن رأَيْتَهُ وَحْدكَ فهذه نِعْمةٌ عُظْمى ، فالصَّحابة الكِرام رأَوْا افْتِقارهم إلى الله في بَدْر فَنَصَرَهُم الله ، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
[ سورة آل عمران الآية : 123 ]
 لكنهم في حُنَيْن رَأَوْا كَثْرَتَهُم فَخَذَلَهُم الله ، قال تعالى :
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾
[ سورة التوبة الآية : 25 ]
 فأنت إن رأَيْتَ افْتِقارَك تَوَلاَّك الله ، وإن اعْتَدَدْتَ بِقُوَّتِك وعِلْمِك ومالِك ، واسَتَغْنَيْتَ عن الله ضِمْنًا خذَلَك الله ، لذا مع الاسْتِغْناء الخِذْلان ، ومع الافتِقار الإمْداد والرِّعايَة ، إذًا يُمكن أن نقول : أنت كلّ يوم في امْتِحانَيْن ؛ امْتِحان الافْتِقار ، وامْتِحان الاسْتِغْناء ، فبِافْتِقارِكَ يتولاَّك الله ، وباسْتِغْنائِكَ يَكِلُكَ الله إلى نفْسِكَ ، ومَن توكَّل على نفْسِهِ أَوْكَلَهُ الله إيَّاها ويُؤتَى الحَذِرُ مِن مَأْمَنِهِ ، ويُؤْتى صاحِب الاخْتِصاص من اخْتِصاصِهِ وصاحِب التَّفَوُّق من تَفَوُّقِهِ ، وصاحِبُ المال مِن مالِهِ ، لذا كُلَّما اسْتَغْنَيْتَ عن الله عز وجل أُخِذْتَ من اخْتِصاصِك ، ومِن مَأمَنِك وتَفَوُّقِك ، قال تعالى :
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى  إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾
[ سورة العلق الآيات : 6-8 ]
الموازنة الإلهية :
 الآن وازِنْ بين شَخْصَيْن ؛ قال تعالى :
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى  عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾
[ سورة العلق الآيات : 9-10 ]
 رَجُلٌ يَنْهى الناس عن الصلاة ؛ حديثُهُ كاذِب ومُنْحَرِف ولئيم وأناني وكاذِب ومُنافق ودجَّال ، ما دام يقطع الناس عن الصلاة فَهُوَ مع شَهوَتِهِ ومُنْقَطِع عن الله ، قال تعالى :
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَوَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِفَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَالَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَالَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَوَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾
[ سورة الماعون ]
 قال تعالى :
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
[ سورة القصص الآية : 5 ]
 أين الجواب ؟ اُنْظر إلى أفعالِهِ وشَخْصِيَّتِهِ ووُعودِهِ وكلامِهِ ودناءَتِهِ وخِيانَتِهِ ، واحْتِيالِهِ واعْوِجاجِهِ فأخْلاقُهُ المُنْحَرِفَة أقْوى دليل على انْحِرافِهِ ، وهو أصْغَر مِن أن يُناقَش ألا يَكفي أنَّهُ كذَّاب ؟ ومُحْتال ؟ وأناني ؟ وقَذِر ؟ ويَخُون ؟ أرأيْتَ إن كان على الهُدى ؛ اُنْظر إلى صِدْقِهِ وأمانتِهِ وعِفَّتِهِ واستِقامَتِهِ ومُروءَتِهِ وتواضُعِهِ ورَحْمَتِهِ ، سُلوك المؤمن أكبَر دليل على إيمانِهِ ، وسُلوك المُنْحَرِف أكبر دليل على إيمانِهِ ، وسُلوك المُنْحَرِف أكبر دليل على انْحِرافِهِ ، فهذه الآية قَوِيَّة جدًا ! قال تعالى :
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى  عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾
[ سورة العلق الآيات : 9-10 ]
 انْتَهَتْ الآية ! أرأيْتَ إلى أخْلاقِهِ وطِباعِهِ وعلاقاتِهِ وقَسْوِتِهِ وعلاقتِهِ بِزَوْجَتِهِ وأولادهِ ، قال تعالى :
﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى  أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾
[ سورة العلق الآيات : 11-12 ]
 قال تعالى :
﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ  نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾
[ سورة العلق الآيات : 15-16 ]
 مِن أشدّ أنواع التَّنكيل أن تَمْسِكَ الإنسان بِمُقَدِّمة رأسِهِ وتضرب الأرض بِرَأسِهِ ! تضْرب به فناصِيَةُ الإنسان مقدِّمة رأسِه ، قال تعالى :
﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾
 ماذا يوجَد في ذِهْنِهِ ؟ خُبْث واخْتِيال ، وشَطط وتَفْكير بالمعاصي ، قال تعالى :
﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾
[ سورة العلق الآية : 17 ]
 يأتي الإنسان يوم القِيامة وَحْده فَرْدًا ، فَهُوَ في الدنيا له جماعَة ، وأتْباع وأعْوان ، فالإنسان أحْيانًا قد يَحْتاج إلى العِقاب فيأتي مائة تلفون يتوسَّطون لِهذا الشَّخص ! معنى ذلك أنَّ له أتْباع ، وشبَكَة مُواصلات ، وهذه الشَّبَكة تنتهي يوم القيامة ، قال تعالى :
﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾
[ سورة العلق الآية : 17 ]
 ليس معه أحد ، تقول له : يا بني جَعَلْتُ لك صَدْري سِقاءً وبَطْني وِعاءً وحجري وِطاءً فهل مِن حسَنَةٍ يعود عليَّ خبرها اليوم ؟ فيقول : يا أُمِّي ليتني أسْتطيعُ ذلك إنَّما أشْكو مِمَّا أنت تَشْكين ، قال تعالى :
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾
[ سورة المؤمنون الآية : 101 ]
 وقال تعالى :
﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾
[ سورة الكهف الآية : 48 ]
 ثمَّ قال تعالى :
﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ  كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾
[ سورة العلق الآيات : 18-19 ]
 فإذا قال لك إنسانٌ : لا تُصَلِّي ! فلا تُطِعْهُ واسْجُد واقْتَرِب .
 سألني البارِحَة إنسان يعْمل في مُؤَسَّسة وصاحِبُها مؤمن ، يَمْنَعُهُ مِن صلاة الجُمُعة ، وهو تحت طائِلَة الطَّرْد من العمل !! فقُلْتُ له : لِيَطْرُدْكَ من العَمَل والله هو الغَنِيّ ولا طاعة لِمَخلوق في مَعْصِيَةِ الخالق .
 قالتْ له : إما أن تكْفر وإما أن أدَعَ الطَّعام حتى أموت ؛ سـيِّدُنا سَعْد ، فقال لها : يا أُمِّي لو كانت لك مائة نفْس فَخَرَجَت واحِدة تلْوَ الأخرى لما كفَرْتُ مُحَمَّد ، فَكُلي إن شئتِ أو لا تأكُلي !! 
 ولا طاعة لِمَخلوق في مَعْصِيَةِ الخالق .
 والي البصرة قال : إنَّ يزيد يأمرني أن أُنَفِّذ كذا وإن نفَّذْت الأمر عصَيْتُ الله .
 فقال الحسن : إنَّ الله يَمْنَعُكَ من يزيد ولكنَّ يزيد لا يَمْنَعُكَ من الله ! 
 يأتي مرض خبيث لا يُمْكِن أن يُخَلِّصَهُ أحَد ، أقْرَبُ الناس يبتعِدُ منك ! يأتي عِقاب أليم ، أما إن كنتَ مع الله يُخَلِّصُك من كلّ أحَد ، ويمنع كلّ أحدٍ منك ، أما إذا كنت مع الجبابرة فلا أحد يمنعُكَ منهم ، ولا أحد يمنَعُكَ من الجبار الأعلى .
 إنَّ الله يَمْنَعُكَ من يزيد ولكنَّ يزيد لا يَمْنَعُكَ من الله ! 
 ولا طاعة لِمَخلوق في مَعْصِيَةِ الخالق ، قال تعالى :
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾
والحمد لله رب العالمين

شارك الموضوع

0 التعليقات :

إرسال تعليق